كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الفرع الثامن: اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته كسائر ما خافه من تركته.
ومن الأدلة الدالة على ذلك، ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه قال: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. ورواه مالك في الموطأ من رواية ابن شهاب عن عمر وزاد: قال ابن شهاب: وكان قتلهم أشيم خطأ: وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه. روي نحوه عن الغيرة بم شعبة وزرارة بن جري. كما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ.
ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل.
وهذا الحديث قواه ابن عبد البر، وأعله النسائي. قاله الشوكاني. وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه.
ومناه ما رواه البخاري في تاريخ عن قرة بن دعموص النميري قال: أتيت النًّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي، فقلت: يا رسول الله، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها وكان قتل في الجاهلية.
فقال: «أعطه دية أبيه» فقلت: هل لأمي فيها حق؟ قال: «نعم» وكانت ديته مائة من الإبل.
وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا: قال قيس بنن حفص: أنا الفضيل بن سليمان النميري قال: أنا عائذ ابن ربيعة بن قيس النميري قال: حدثني قرة بن دعموص قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي- إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا. وسكت عليه البخاري رحمه الله. ورجال إسناده صالحون للاحتجاج. إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله.
وذكر له البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة، وذكر أنه سمع قرة بن دعموص- ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.
وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله، وهو الظاهر. سواء كان القتل عمدًا أو خطأ. ولا يخلو ذلك من خلاف.
وروي عن علي رضي الله عنه أها ميراث كقوله الجمهور، وعنه رواية أخرى: أن الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه، وكان هذا هو رأي عمر، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم إياه: أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها.
وقال أبو ثور: هي ميراث، ولكنها لا تقضى منها ديونه. ولا تنفذ منها وصاياه.
وعن أحمد رواية بذلك.
قال ابن قدامة في المغني: وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته. فللموصى له بالثلث ثلث الدية- في أحدى الروايتين.
والأخرىك ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.
ومبنى هذا: على أن الدية ملك للميت، أو على ملك الورثة ابتداء. وفيه روايتان: إحداهما أنها تحدث على ملك الميت. لأنها بدل نفسه، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحًا وليس له إسقاط حق الورثة، ولأنها مال موروث فاشتبهث سائر أمواله. والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء. لأنها إنما تحستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له، ويخرج عن أن يكون أهلًا لذلك، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء. ولا أعلم خلافًا في أن الميت يجهز منها. اهـ محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله.
قال مقيدة عفا الله عنه: أظهر القولين عندي: أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه. لتصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته. والميراث لا يطلق شرعًا إلا على ما كان مملوكًا للميت، والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة:
اختلف العلماء في تعيين ولي المقتول الذي جعل الله له هذا السلطان المذكور في هذه الآية الكريمة: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] الآية.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بالولي في الآية: الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبائر. فإن عفا من له ذك منهم صح عفوه وسقط به القصاص، وتعينت الدية لمن لم يعف.
وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله تعالى.
وقال ابن قدامة في المغني: هذا قول أكثر أهل العلم. منهم عطاء، والنخعي، والحكم، وحماد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وروي معنى ذلك عن عمر، وطاوس، والشعبي، وقال الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي: ليس للنساء عفو. أي فهن لا يدخلن عندهم في اسم الولي الذي له سلطان في الآية.
ثم قال ابن قدامة: والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة. وهو جه لأصحاب الشافعي.
قال مقيده عفا الله عنه: مذهب مالك في هذه المسألة فيه تفصيل: فالولي الذي له السلطان المذكور في الآية الذي هو استيفاء القصاص أو العفو- عنده هو أقرب الورثة العصبة الذكور، والجد والإخوة في ذلك سواء. وهذا هومعنى قول خليل في مختصره والاستيفاء للعاصب كالولاء، غلا الجد والإخوة فسيان اهـ.
وليس للزوجين عنده حق في القصاص ولا العفو، وكذلك النساء غير الوارثات: كالعمات، وبنات الإخوة، وبنات العم.
أما النساء الوراثات: كالبنات. والأخوات، والأمهات فلهن القصاص. وهذا فيما إذا لم يوجد عاصب مساو لهن في الدرجة. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: وللنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب.
فمفهوم قوله: إن ورثن أن غير الوارثات لا حق لهن، وهو كذلك.
ومفهوم قوله: ولم يساوهن عاصب أنهن إن ساواهن عاصب: كبنين، وبنات، وإخوة اخوات، فلا كلام للإناث مع الذكور. وأما إن كان معهن عاصب غير مساو لهن: كبنات، وإخوة. فثالث الأقوال هو مذهب المدونة: أن لكل منهما قصاص ولا يصح العفو عنه لا باجتماع الجميع. أعني ولو عفا بعض هؤلاء، وبعض هؤلاء. وهذا هو معنى قول خليل في مختصره: ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم. يعني ولو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي في هذه المسألة: ان الولي في هذه الآية هم الورثة ذكورًا كانوا أو إناثًا. ولا مانع من إطلاق الولي على الأنثى. لأن المراد جنس الولي الشامل لكل من انعقد بينه وبين غيره سبب يجعل كلًا منهما يوالي الآخر. كقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] الآية.
والدليل على شمول الولي في الآية للوارثات من النساء ولو بالزوجية- الحديث الوراد بذلك، قال أبو داود في سننه: (باب عفو النساء عن الدم) حدثنا داود بن رشيد، ثنا الوليد عن الأوزاعي: أنه سمع حصنا، أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة».
قال أبو داود: بلغني أن عفر النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء. وبلغني عن أبي عبيدة في قوله: «ينحجزوا» يكفوا عن القود.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الوليد عن الأوزاعي قال: حدثني حصن قال: حدثني أبو سلمة (ح) وأنبأنا الحسين بن حريث قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال حدثني حصن: أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة» اهـ.
وهذا الإناد مقارب. لأن رجاله صالحون للاحتجاج، إلا حصنًا المذكور فيه ففيه كلام.
فطبقته الأولى عند أبي داود: هي داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد وهو ثقة. وعند النسائي حسين بن حريث، وإسحاق بن إبراهيم. وحسين بن حريث الخزاعي مولاه أبو عمار المروزي ثقة.
والطبقة الثانية عندهما: هي الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، وهو من رجال البخاري ومسلم وباقي الجماعة.
والطبقة الثالثة عندهما: هي الإمام الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو عمر الأزواعي، وهو الإمام الفقيه المشهور، ثقة جليل.
والطبقة الرابعة عندهما: هي حصن المذكور وهو ابن عبد الرحمن، أو ابن محصن التراغمي أبو حذيفة الدمشقي، قال فيه ابن حجر في التقريب: مقبول. وقال فيه في تهذيب التهذيب: قال الدارقطني شيخ يعتبر به، له عند أبي داود والنسائي حديث واحد «على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة» قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان لا يعرف حاله اهـ، وتوثيق ابن حبان له لم يعارضه شيء مان من قبوله. لأن من أطلع على أنه ثقة ما لم يحفظه مذعي أنه مجهول لا يعرف حاله. وذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب عن أبي حاتم ويعقوب بن سفيان أنهما قالا: لا نعلم أحدًا روى عنه غير الأوزاعي.
والطبقة الخامسة عندهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ثقة مشهور.
والطبقة السادسة عندهما: عائشة رضي الله عنها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. فقد رأيت أ، ابن حبان رحمه الله ذكر حصنا المذكور في الثقات.
وأن بقية السند كلها صالح للاحتجاج. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
إذا كان بعض أولياء الدم صغيرًا أو مجنونًا، أو غائبًا، فهل للبالغ الحاضر العاقل: القصاص قبل قدوم الغائب، وبلوغ الصغير، وإفاقة المجنون؟ أو يجب انتظار قدوم الغائب، وبلوغ الصغير..!إلخ.
فإن عفا الغائب بعد قدومه، أو الصغير بعد بلوغه مثلًا القصاص ووجبت الدية. في ذلك خلاف مشهور بين أهل العلم.
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لابد من انتظار بلوغ الصغير، وقدوم الغائب، وإفاقة المجنون.
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامو: وبهذا قال ابن شبرمة، والشافعي، وأبو يوسف، وإسحاق، ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وعن أحمد رواية أخرى للكبار العقلاء استيفاؤه. وبه قال حماد، ومالك، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة. اهـ محل الغرض من كلام صاحب المغني.
وذكر صاحب المغني أيضًا: أنه لا يعلم خلافًا في وجوب انتظار قدوم الغائب. ومنع استبداد الحاضر دونه.
قال مقيده عفا الله عنه: إن كانت الغيبة قريبة فهو كما قال. وإن كانت بعيدة ففيه خلاف معروف عند المالكية. وظاهر المدونة لانتظار ولو بعدي غيبته.
وقال بعض علماء المالكية منهم سحنون: لا ينتظر بعيد الغيبة. وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره في مذهب مالك، الذي قال في ترجمته مبينًا لما به الفتوى بقوله: وانتظر غائب لم تبعد غيبته. لا مطبق وصغير لم يتوقف الثبوت عليه.
وقال ابن قدامة في المغني ما نصه: والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقًا أربعة أمور: أحدها- أنه لو كان منفردًا لاستحقه. ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردًا كولاية النكاح. والثاني: أنه لو بلغ لاستحق. ولو لم يكن مستحقًا عند الموت لم يكن مستحقًا بعده. كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه. والثالث: أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق، ولو لم يكن مستحقًا للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي. والرابع: أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته، ولو لم يكن حقًا لم يرثه كسائر ما لم يستحقه.
واحتج من قالك إنه لا يلزم انتظار بلوغ الصبي ولا إفاقة المجنون المطبق بأمرين:
أحدهما- أن القصاص حق من حقوق القاصر، غلا أنه لما كان عاجزًا عن النظر لنفسه كان غيره يتولى النظر في ذلك كسائر حقوقه فإن النظر فيها لغيره، ولا ينتظر بلوغه في جميع التصرف بالمصلحة في جميع حقوقه. وأولى من ينوب عنه في القصاص الورثة المشاركون له فيه. وهذا لا يرد عليه شيء من الأمور الأربعة التي ذكرها صاحب المغني. لأنه يقال فيه بموجبها فيقال فيه: هو مستحق لكنه قاصر في الحال، فيعمل غيره بالمصلحة في حقه في القصاص كسائر حقوقه.
ولا سيما شريكه الذي يتضرر بتعطيل حقه في القصاص إلى زمن بعيد.
الأمر الثاني: أن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي قصاصًا بقتله عليًا رضي الله عنه، وبعض أولاد علي إذ ذاك صغار، ولم ينتظر بقتله بلوغهم، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة ولا غيرهم. وقد فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه كما هو مشهور في كتب التاريخ. ولو كان انتظار بلوغ الصغير واجبًا لانتظره.
وأجيب عن هذا من قبل المخالفين بجوابين: أحدهما- أن ابن ملجم كافر. لأنه مستحل دم علي، ومن استحل دم مثل على رضي الله عنه فهو كافر. وإذا كان كافرًا فلا حجو في قلته. الثاني: أنه ساع في الأرض بالفساد، فهو محارب، والمحارب إذا قتل وجب قتله على كل حال لو عفا أولياء الدم كما قدمناه في سورة المائدة وإذن فلا داعي للانتظار.
قال: البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: قال بعض أصحابنا: إنما استبد الحسن بن علي رضي الله عنهما بقتله قبل بلوغ الصغار من ولد علي رضي الله عنه. لأنه قتله حدًا لكفره لا قصاصًا.
وقال ابن قدامة في المغني: فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره. لأ، ه قتل عليًا مستحلًا لدمه، معتقدًا كفره، متقربًا بذلك إلى الله تعالى. وقيل: قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح، فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، وقتله متحتم، وهو إلى الإمام. والحسن هو الإمام، ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة. ولا خلاف بيننا في وجوب انتظاهرهم وإن قدر أنه قتله قصاصًا فقد اتفقنا على خلافه. فكيف يحتج به بعضنا على بعض. انتهى كلام صاحب المغني.